أشعر أحياناً أن علاقتي بالمدن تشبه علاقة الأم بأولادها. إذ عندما تلد طفلها الأول، تعتقد أنه سيستحيل عليها أن تحبّ أولادها الباقين بنفس القدر، حتى يأتي الولد الثاني فتراها تكرّس وقتها له، لتكتشف بعدها أن محبتها للولدين متساوية وهكذا دواليك مع الولد الثالث فالرابع (ولا أظنّ أن هناك إمرأة في أيامنا هذه تنجب أكثر من ذلك) !
الأمر عينه ينطبق علي ولكن على نطاق أكبر فعدد الدول والمدن التي زرتها تتعدى وبكثير والحمد لله الأربعة. فكلما سافرت إلى مكان، خلت أنه أجمل ما رأت عيناي وأنني من شبه المستحيل أن يترك مكان آخر نفس الإنطباع لدي وإذا بي أغير رأيي ما أن تطأ قدماي مطار دولة أخرى !
أو لعلي أشبه بدون جوان، الذي يتغيّر هواه مع تغيّر علاقاته. ولكنه في لحظتها، يكون صادقاً في مشاعره تجاه من يوجّه اليه هذه الأحاسيس. وهكذا أنا والسفر ! مع كل سفرية عشق جديد ! وثنية جديدة تضاف إلى ثنايا شخصيتي وهويتي، هذه الهوية الهجينة، التي اعتنقت الترحال ديانةً ثانية، فباتت لا وطن لها أو بالأحرى كلّ الأوطان أوطانها.
والآن فلنعد الى الموضوع الأساسي لهذه التدوينة: العاصمة الألمانية: برلين !
زيارة برلين لم تكن في الحسبان ! ففي الأساس كان من المفترض أن أقصد بروكسيل في رحلة عمل وأن أقضي ما تبقى من الأسبوع في باريس عند أخي.
ليست المرة الأولى التي أزور فيها ألمانيا، فهذا الصيف كنت في بونّ ومن أربع سنوات كنت في ميونيخ ! و لكن برلين نيمالز زوفور (niemals zuvor ) أو ما معناه أبداً من قبل !
ولكن بفعل ساحر تبدّل البرنامج ومن حيث لا أدري بتّ سأتوّجه إلى برلين بعد بروكسيل.
جميع من علموا بهذه الزيارة، ممن سبق وسافروا إلى برلين، قالوا: “ستعشقين برلين، إنها أجمل من باريس بكثير والأسعار فيها بخسة مقارنة بباقي العواصم الأوروبية. “
و قالوا في برلين أيضاً: “إن عيد الميلاد في برلين فريد ولا يشبه نفسه في أي مكان آخر لجهة الزينة والأجواء، إلخ، إلخ،إلخ.”
و قالوا فيّ أيضاً وفي برلين: “برلين تشبهك كثيراً يا تاليا حتى أنه يمكننا أن نتخيلك بسهولة هناك. الله أعلم إن كنتي ستعودين إلى بيروت بعدها.”
وهكذا حطت رحالي برلين في 4 كانون الأول – ديسمبر من هذا العام، 2014. وكان أول أيام زمن الميلاد المجيد. فكان أول تجوالي في أحد الأسواق الميلادية أو ما يعرف في الألمانية ب Weinhachtsmarkt.
وتخيّلوا منظري والصدمة التي اعترتني لدى معرفتي أن هناك ليس سوق واحد بل مئات الأسواق الميلادية في برلين، في كلّ شارع تقريباً. ومن أنّى لي أن أتصوّر ذلك وأنا إبنة بيروت هذه المدينة الصغيرة التي تكاد تكون أصغر من حيّ واحد في برلين ! فتساءل: إن كانت زيارة سوق واحد قد أذهلتني، فكيف بي إن تجولت في غيره وغيره ؟
شأنه شأنه أي مكان آخر على مشارف عيد ما، يضج السوق بالناس والموسيقى والمأكولات والمنتجات التقليدية. لا شيء جديد، إذا ما تفسير هذا السحر ؟ أنا أعجز عن الشرح بصراحة.
في اليوم التالي، اصطحبني رفيق لزيارة المنطقة حيث كان حائط برلين الشهير أو ما يعرف اليوم ببوابة براندبرغ. ذاك الجدار الفاصل بين ألمانيا الشرقية والغربية. بين الإتحاد السوفياتي والعالم الشيوعي آنذاك والغرب الليبرالي. برلين الشرقية وبرلين الغربية. بيروت أيضاً كانت شرقية وغربية ولكن بالعكس، إذ بالإمكان القول أن بيروت الغربية كانت ذات الأغلبية المسلمة، ذات التوجّه اليساري الدكتاتوري و الثورة الإيرانية والكوبية وجميع ثورات العالم أما بيروت الشرقية فهي كانت تحتض الأكثرية المسيحية في وقتها المناصرة للإمبريالية الأميركية (وهذا الكلام ليس منّي، فما أنا إلا رسول، ينقل ما كان يقال في تلك الفترة). جدار برلين سقط تقريباً في نفس الفترة التي انتهت فيها الحرب الأهلية في لبنان (ميدانياً أقله و ليس في النفوس مع الأسف) 1989 – 1990. في الحالتين، دفع الكثير من الناس حياتهم ثمناً لمحاولتهم العبور من مقطع إلى آخر، فأرداهم رصاص جنود نظاميين (بغض النظر عن أصحية مصطلح نظاميين) أو أخرى غدارة لقنّاص مربّع بين جدران مبنى ما. المدينتين جرى إعادة إعمارهما. فانتفضتا على أنقضاهما.
أعتذر إن كنت أكرر كليشيهات، مللتم من سماعها ولكن ما أنا أعيد سوى الواقع !
المدينتين لا تنامان ! ولعلّ برلين تتميّز في ذلك أكثر من بيروت إذا ما قارنناها بسائر العواصم الأوروبية التي تختفي منها الحياة في معظم شوارعها بعد السادسة أو السابعة مساءً في أيام الأسبوع العادية. في برلين لا. الحياة تنبض في أي ساعة من النهار!
صدق من قالوا ما قالوه عن برلين وعنّي في برلين! بوركت ألسنتهم !
سأكتفي بهذا القدر الكلام، فاللت والعجن لا يفيدان. وأمل أن ترتوي عيونكم من هذه الصور مع أن العكس تماما هو ما حصل معي، إذ عدت مرّة أخرى إلى بيروت الحبيب وبي ظماً و نار من الصعب أن تنطفئ! عدت وأنا أتساءل إن كانت نفسي ستجد مرقدها يوماً ما، أم أنه محكوم عليها أن تظل دوماً تبحث عن هذا الفؤاد.
إلى اللقاء في الغد القريب مع مغامرة جديدة وعشق جديد! و تصبحون على نفسٍ هجينة !
ملاحظة: جميع الصور من عدسة خادمتكم المتواضعة، صاحبة المدونة والتدوينة
بالتعقيب على التدوينة، نشر موقع الدويتشة فيلله التابع للمؤسسة الإعلامية الألمانية ذاتها، مقالاً آخر بعنوان:
عشر أسباب كي تقع في حبّ برلين في زمن الميلاد
http://www.dw.de/ten-reasons-to-fall-in-love-with-berlin-at-christmas/g-18116091
أدعوكم للإطلاع عليه 🙂